أيمن نحّاس... جرأة الكوميديا ليست في الشتائم والجنس | حوار

الفنّان أيمن نحّاس

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

عدد كبير من أبناء جيلي عرف الفنّان أيمن نحّاس من خلال ثنائيّ شمّاس نحّاس؛ أي أنّه عرفه من خلال الضحك. أيمن، الّذي وُلد في قرية ترشيحا في كنف جدّ، تبيّن أنّ تعاليمه سارت في مسار الضحك دون أن يُلَقَّن تلقينًا، سيكبر ويصير أحد أبرز الكوميديّين الفلسطينيّين، لكن ليس قبل أن يسجّل مشوارًا طويلًا، في أعمال مسرحيّة دراميّة وفي مسرح الأطفال وفي السينما. يقول نحّاس إنّه وبعد أكثر من عقدين من العمل على خشبة المسرح، فَهِم أنّه ينحاز إلى الكوميديا وإلى إضحاك الناس. وفي ذلك ما يثيرنا، ليس على صعيد تتبّع مسيرته الفنّيّة فحسب، بل على أصعدة عامّة ترتبط بالكوميديا الفلسطينيّة بعامّة، بموضوعاتها، بتحفّظ جمهورها، بحاجتنا إلى الضحك وخوفنا منه.

في هذه المقابلة المطوّلة الّتي أجريناها في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة معه، يتحدّث أيمن بتفاؤل كبير تجاه الحركة المسرحيّة المحلّيّة، فعلى الرغم من الصعوبات الّتي كانت تواجهها مع فايروس كورونا ودون فايروس كورونا (Covid-19)، فإنّ أيمن نحّاس يبدو مثل أب صبور يقود مع رفاقه يد المسرح؛ ليخطو خطوة خطوة إلى الأمام. وربّما هو الشيء الوحيد الّذي في استطاعته وفي استطاعتهم استخدامه، من أجل أن يرفعوا شعلاتهم في حلكة الليل المجتمعيّ والسياسيّ.

 

فُسْحَة: هل أثّرت وتؤثّر أزمة كورونا في طريقة عملك، وفي الموضوعات الّتي تثيرك فنّيًّا؟

أيمن: نعم، هذه الفترة جعلتني أطرح أمام نفسي أسئلة ترتبط بمدى أهمّيّة وقوفنا فوق خشبة المسرح. ومن جهة أخرى، كم يتقزّم عملنا مقابل أشياء كثيرة. مثلًا، نحن نسأل أنفسنا على الدوام عن أهمّيّة المسرح عند الناس، لكنّ هذا السؤال بدا أكثر إلحاحًا الآن. توصّلت إلى قناعة بأنّ المسرح ليس أمرًا مهمًّا لهم؛ فالناس مشغولون بالإنتاجات المصوّرة والتيك توك والمنصّات الإلكترونيّة، وبالتالي، أصبح المسرح فنًّا محدودًا لا يحتاج إليه الناس، في حين ما يحتاجون إليه يتعلّق بأكلهم وشربهم وأشغالهم اليوميّة. من جانب آخر، يبدو أنّه أوان المسرح؛ إذ عليه أن ينمو وأن يُكْمِل عطاءه الآن، هكذا قلت لنفسي منذ بداية هذه الأزمة.

 

فُسْحَة: في كلامك الكثير من الإحباط؛ من أين إذن تجلب الأمل؟

أيمن: الأمر متبدّل، ثمّة مشاعر مختلطة وغير مفهومة أحيانًا. أنا لا أشعر بالغضب الكبير لكنّي في الوقت نفسه أشعر بالضيق. كيف أقول لكِ؟ نحن الفنّانين اعتدنا هذا الوضع؛ إذ إنّه لم يتغيّر كثيرًا. في مسألة العروض مثلًا، نحن في حرب دائمة، حرب مع الجمهور والتمويل والإبداع والإنتاج. الأزمة الحاليّة جعلتني أعيش أسبوعًا مليئًا بالطاقات والعمل، يليه أسبوع خامل. ثمّة لحظات شعرت فيها باضطراري إلى العمل، وأخرى شعرت بضرورة أن أسترخي. أمّا عن سؤال الإبداع، فقد فكّرت في الموضوعات الّتي علينا أن نتناولها، لكن في اللحظات الّتي علينا أن نكون فيها أيضًا. ربّما ثمّة فترات زمنيّة علينا أن نكون فيها وأخرى علينا أن نقف فيها جانبًا. العالم لا يدور حولنا؛ فنحن المسرحيّين أشخاص نتعامل مع غرورنا الشخصيّ على الدوام. لذلك، قد تكون هذه فترة إيجابيّة لنا. لا أقول لك إنّها كانت فترة غير مسبوقة على المستوى الإبداعيّ، لكنّها حافلة بالأفكار الّتي تختمر كي تخرج يومًا ما؛ فقد اعتدتُ من خلال تجربتي أن أترك الأمور حتّى تختمر وتُبْنى، قبل أن تُدْفَع في اتّجاه الخروج إلى النور.

 

فُسْحَة: وكيف يمكن الستاند أب أن يجد مكانًا في هذه الأوقات العصيبة؟

أيمن: حقيقةً أرى أنّ هذا هو زمنها؛ فالواقع السياسيّ وأزمة الكورونا واتّفاقيّات السلام والسياسات الإسرائيليّة، هي خلطة موضوعات كبيرة ومثيرة. أحاول ما استطعت أن أكون فعّالًا على مواقع التواصل الاجتماعيّ، لكنّي لا أنجح دائمًا. لامست هذه المواضيع هنا وهناك، لكن لو أنّنا في أوضاع طبيعيّة نستطيع بها أن نقدّم عروضًا، لكانت هذه الموضوعات هي المطروحة. هذه فترة غريبة جدًّا ومخيفة.

 

فُسْحَة: هل تدفعك هذه الغرابة إلى التعاطي مع الواقع من باب كوميديّ؟

أيمن: أحيانًا. أحاول ما استطعت أن أهرب من حقيقة أنّي ضحيّة هذه الفترة، لكنّي أحيانًا أشعر بأنّي لا أقوى على مجابهتها. كما ذكرت، الصراع لم يُوْلَد الآن، لكنّه أصبح أكثر حدّة، أتعاطى مع بعض المواضيع بكوميديّة، ولا سيّما تلك الّتي ترتبط بسلوكيّات البشر. الستاند أب يتّخذ عادةً من السلوكيّات مادّة لأنّها ديناميكيّة. في الوقت الحالي أنا أنظر إلى محيطي، وأخزّن مشاهداتي حتّى تخرج في لحظة ما، مع محاولة دائمة لمقاومة الانكسار وإخراج العصارة من التجارب، والنظر إليها من خارجها.

 

فُسْحَة: إذن، ما الموضوعات الّتي تُثير فيك الضحك؟ أو الّتي تدفعك إلى التفكير فيها بصفتها مادّة مسرحيّة؟

أيمن: ليس ثمّة شيء واحد يهزّ اهتمامي على نحو فريد، ربّما أيضًا بسبب التكثيف في الأحداث والموضوعات الّتي طرأت في حياتنا هذا العام. على سبيل المثال لا الحصر، حرّكتني قضيّة "طحينة الأرز" وموت الفنّان أيمن صفيّة، أثارتني هذه المسائل من باب تعاطي الناس معها. إلى أين يتّجه مجتمعنا؟ كيف نتصرّف كمجتمع؟ تعنيني الكتابة عن هذه المسائل، الّتي ربّما خرجت إلى الحيّز العامّ الآن، لكنّها سترافقنا في الكثير من الوقت.

 

فُسْحَة: ما رأيك في الكوميديا الّتي يُنتجها الفلسطينيّون؟

أيمن: لا شكّ في أنّ السنوات الخمس الأخيرة رصدت تقدّمًا في هذا المشهد، الطلب على العروض يزداد يومًا بعد يوم، الكوميديّون موجودون ويزدادون أيضًا. ثمّة بدايات جديرة جدًّا، لكن ثمّة أمور بحاجة إلى تطوير. نلحظ وعيًا وقبولًا أكبر لهذا الفنّ. شعرت خلال السنتين الأخيرتين بوجوب وجود مكان يدعم الكوميديا والكوميديّين؛ فثمّة اهتمام متبادل يُظهره الأخيرون ويُظهره جمهورهم أيضًا، والسنوات الأخيرة كانت مهمّة جدًّا على مستوى العرض. كذلك في تجربتي أنا، فتحت المجال لعروض صغيرة، كما قدّمت مجموعة من ورشات العمل.

 

فُسْحَة: ماذا تقصد بالأمور الّتي تحتاج إلى تطوير؟ أفي الإنتاج أم المحتوى؟

أيمن: في الأمرين. لا يزال المزاج العامّ في شأن المحتوى محافظًا، ولا يزال الستاند أب كوميدي يقدّم صوابيّةً سياسيّة. مررت في هذه التجربة أنا أيضًا، وهذا أمر في غاية الطبيعيّة، أن تلائمي نفسك للجمهور. لكن يجب أن أشير إلى أنّ المحافظة ليست دائمًا أمرًا إيجابيًّا أو سلبيًّا. أنا لا أسعى إلى الحروب وإلى تكسير المعتقدات، لكن مَنْ يريد أن يكون محافظًا سيراوح مكانه. الحديث عن العنف، على سبيل المثال، يتطلّب إجابة عن سؤال: ما الوجهة الّتي يشير إليها الستاند أب، دون خوف؟ المجتمع أم الدولة؟ ثمّ إنّ السؤال الثاني الملحّ يكمن في ضرورة عدم وقوع الستاند أب في فخّ الوعظ، وأن يخرج من الداخل.

 

فُسْحَة: ما المقصود بـ "من الداخل"؟

أيمن: أي من داخل الكوميديّ نفسه. يعني أن تنبع الكوميديا من تجربته الشخصيّة قبل أن توجّه أنظارها إلى محيطها، أن تصدر من منظوره الشخصيّ، لكن دون أن تكون شخصيّة جدًّا. ثمّة توجّه في الكوميديا يعتمد على المشاهدة (Observational). جيّد، لكن دعونا نفكّر ماذا نقول عن هذه المشاهدة، وأن ينبع قولنا من مكان قويّ حتّى لا يشعر المتلقّي بأنّه مهدّد.

 

فُسْحَة: لكن ما الّذي قد يُشْعِر الجمهور بأنّه مهدّد؟

أيمن: الحقيقة، التعدّديّة، التغيير. ثمّة منطقة يشعر فيها جمهورنا بالأمان، وسيشعر حتمًا بالخوف لمجرّد الخروج منها. ينبغي لنا أن نتجنّب تكسيرها؛ فالتكسير سيكون بلا معنى. بدلًا منه، يجب اللجوء إلى تفكيكها وفتح المجال أمامها، أن نقول ما نريد قوله ونعطي الجمهور الأمان في آن واحد. بإمكاني أن أتعاطى مع سلوكيّاتك دون أن أهدّد دينكِ. إن تَصَرَّفْنا بشكل خاطئ فهذا لا يعني أنّ معتقداتنا خاطئة. الستاند أب ليس ساحة حرب، وممارسته لا تعني التحرّر بالضرورة. ثمّ إنّ ادّعاء التحرّر ليس أمرًا إيجابيًّا بالضرورة؛ قد تكون شخصًا متحرّرًا وترتكب الأخطاء. علينا أن ننزع عنّا الخوف، نحن شعب مهدّد وجوديًّا، مهدّدة ركائزنا العقائديّة أصلًا. في الكوميديا، أنا لا أدعو أحدًا إلى دين جديد! أتعامل معك ومع نفسي ومعنا، وهذا دور في غاية الأهمّيّة. ثمّة فرق بين أن نصنع الكوميديا تقليدًا وتصفيفًا للكلام المُضْحِك، وبين أن نطرح الموضوعات الّتي تهمّنا.

 

فُسْحَة: وهل تنجح دائمًا في الوصول إلى هذا التوازن، في أمر التعاطي مع المعتقدات والعادات والتقاليد؟

أيمن: إن أردنا بدايةً الحديث عن أبسط الأشياء، الألفاظ والمفردات، فسنجد أنّها تشكّل عند الجمهور خطًّا أحمر، كالشتائم والإيحاءات الجنسيّة، لكنّه يتغيّر من مكان إلى آخر ومن جيل إلى آخر، ويختلف كثيرًا في حالات يأتي فيها الجمهور لحضور العرض، وفي أخرى تذهبين أنتِ إليه. لكن من جهة أخرى، أنا لا تعنيني هذه الألفاظ ألبتّة. حين يُطْلَب منّي في مكان ما أن أتجنّبها، أفعل؛ فالكلمات البذيئة ليست هدفي. ما أعنيه بالحديث عن مواضيع جريئة هو الموضوع نفسه، وليس مسبّة هنا وشتيمة هناك. ثمّة ما هو أكثر بذاءة من الشتائم، التملّق والفساد وتجارة السلاح وغيرها... هنا تكمن جرأة صانعي الكوميديا، لكنّ قناعتي هذه لم تمنعني من أن أمرّ سابقًا بتجربة الصوابيّة السياسيّة.

 

فُسْحَة: وهل ترى فعلًا في الكوميديا طريقًا لمقاومة الألم أو اليأس؟ ما المنبع النفسيّ الحقيقيّ الّذي يدفعك إلى إضحاك الناس؟

أيمن: ليس لديّ إجابة واحدة، كلّ موضوع طرحته جاء بعد أن استفزّني لأتحدّث عنه، استفزاز من غضب أو من عدم فهم أو من حاجة إلى المشاركة، وأحيانًا بهدف التسخيف، أو بهدف النقد البنّاء أو غير البنّاء، يتعلّق ذلك بالموضوع. أحيانًا أخاف من موضوع ما فأطرحه، تختلف الدوافع؛ في الحديث - على سبيل المثال - عن التربية، أتعاطى معها من إحباطي كأبٍ تارة، وتارة أخرى من خوفي على مستقبل أولادي. في الحديث عن العنف، أتحدّث من الشعور بالعجز أو خوفي على نفسي من العنف حولي، ومن ثَمّ فإنّ كلّ ثيمة تنبع من خليط من المشاعر. حتّى هذه اللحظة، لم أتمكّن من الكتابة عن موضوع لم يُثِرْ فيّ أيّ اهتمام.

 

فُسْحَة: دعنا نتحدّث قليلًا عن ورشات الستاند أب، أعتقد أنّ قدرة المرء على إضحاك الناس، هي قدرة إمّا أن تكون موجودة وإمّا غير موجودة؛ ماذا تستطيع الورشة فعله في هذا السياق؟

أيمن: ثمّة فرق بين الكتابة الساخرة والعرض الساخر. مسألة إضحاك الناس تحتاج إلى خفّة دم وتوقيت وطريقة. قد يسرد النكتة شخصان، يُضحكك أحدهما والآخر لا. أؤكّد في الورشات أنّ ما أقدّمه ناتج عن تجربتي الشخصيّة في الكتابة والعرض وليس الأكاديميّة، وهذا يعني أنّ على كلّ مشترك أن يبحث عن الدوافع الخاصّة به، وعن نظرته إلى الموضوع وزاوية اهتمامه به؛ ففي النهاية، ما الستاند أب إلّا وجهة نظر. ومن هذه المنابع الشخصيّة نصل إلى التقنيّات؛ كيف نكتب السطر الأخير؟ كيف نبني الحبكة لنصل إليها؟ كيف نجهّز الجمهور؟ وكيف نُنْهي العرض؟ ثمّة أمور تقنيّة اكتسبتها من تجربتي الشخصيّة. المسألة ترتبط ببحث المشتركين عن أسلوبهم الخاصّ، بتمريري لتقنيّاتي، بمشاهدة كوميديّين آخرين وتحليل أعمالهم، وإبداء الملاحظات تجاهه.

 

فُسْحَة: كيف بالإمكان نقل تجربة صناعة الكوميديا الفلسطينيّة إلى الخارج؟ أنت قدّمت عروضًا لمتحدّثين بغير العربيّة؛ كيف يمكن تجاوز ما هو أبعد من اللغة؟

أيمن: بدايةً ثمّة مسألة اللغة، ثمّ المسألة الحضاريّة، والاختلافات الحضاريّة تصنع فروقات كبيرة. العرض الّذي قدّمته في أَدِنْبْرا على سبيل المثال، أعددته من جديد باللغة الإنجليزيّة، ثمّ قدّمته مرّة أخرى في بلجيكا، بعد خوفٍ سببه أنّ المرّة الثانية تعني أنّ العرض أصبح عرضًا حقيقيًّا لا ضربة حظّ، لكنّ العرض لاقى استحسانًا عند الجمهور. حاولت أن أتناول موضوعات تخصّنا، لكن حاولت أن أنظر إليها من منظورهم. في الحديث عن القضيّة الفلسطينيّة تناولت مسألة الأفكار المسبقة؛ كيف ننظر نحن إليهم وكيف ينظرون إلينا، وكيف ننظر نحن إلى أنفسنا أيضًا. نحن نتعامل مع أنفسنا على أنّنا في مركز العالم، على الرغم من أنّ ثمّة أناسًا لا يعرفوننا، كما أنّ الجمهور في الخارج يختلف من دولة إلى أخرى. ثمّة جمهور يعرف بعض المعلومات، وآخر لا يعرف شيئًا؛ فقرّرت تناول الأفكار النمطيّة الّتي تصل إليهم عن طريق الإعلام وتحطيمها. وأحيانًا كان عليّ أن أفسّر المواضيع الّتي أتناولها، والّتي قد تكون غريبة بالنسبة إليهم، كتعاليل الأعراس. في بلاد أخرى مثل تونس، تعاملت مع الجمهور كما أتعامل مع الجمهور في حيفا، تناولت ثيمات محلّيّة لكنّها تتداخل مع ثيمات عامّة عربيّة، قد تكون أحيانًا في صلب المحلّيّة الفلسطينيّة لكنّها تصل أيّ جمهور عربيّ، كالسياسة مثلًا.

 

فُسْحَة: عملت لسنوات طويلة في المسرح، لكن نلحظ تركيزك في السنوات الأخيرة على الستاند أب؛ لماذا؟

أيمن: العمل المسرحيّ الأخير الّذي شاركت فيه هو "الزمن الموازي"، استمتعت كثيرًا في تلك التجربة، لكنّي لو أجريت مسحًا على الأعمال الّتي شاركت فيها أو أنتجتها، في السنوات العشرين الماضية، لوجدت أنّ الكوميديا والساتيرا هي أكثر المساحات الّتي تُشْعِرُني بالراحة. أنا لا أقول إنّ صناعتها تشكّل منطقة آمنة، على العكس، فهي مخيفة. أذكر أنّ المخرج نزار زعبي قال لي ذات مرّة، خلال العمل على مسرحيّة "بين حَرْبَيْن"، وكنت أقدّم فيها مونولوجًا أشعرني بأنّي بالكاد تحمّلته، إنّه كان أداءً جميلًا، لكنّي اعتدت على ردود فعل الجمهور؛ فردّ فعل الجمهور في عمل دراميّ تبقى داخل صدره، ولا يمكنك أن تفهميها، ثمّ لاحقًا بدأت أفهم أنّي أحبّ هذه الردود، ولا سيّما الضاحكة منها، أشعر معها بالإبداع والعطاء. ذلك بغضّ النظر عن مدى نجاح الكوميديا، فقد صنعت ما هو غير ناجح منها. السنّ والتجربة تدلّان المرء على المساحات الّتي تمنحه الراحة والرضا. ما يُثيرني يستطيع أن يُخرج العصارة منّي. ثمّة شيء يشدّني إلى الأعمال الّتي يُكتب النصّ خلال العمل عليها، أكثر من الأعمال الّتي تُنْتَج وفق نصّ جاهز، ثمّ إنّي فهمت أنّ لديّ مشكلة مع السينما والكاميرا.

 

فُسْحَة: في الأعمال المسرحيّة كذلك، يمكن تبنّي طريقة كتابة النصّ خلال العمل...

أيمن: في الحقيقة بدأت العمل أنا والممثّلة شادن قنبورة على مسرحيّة كوميديّة، أعني عملًا مسرحيًّا كوميديّا وليس سكيتشات كوميديّة، وآمل أن نتمكّن من الاستمرار فيه.

 

فُسْحَة: يلقى الستاند أب جمهورًا أوسع من المسرح؛ هل لأنّ الناس يحتاجون أكثر إلى الضحك؟

أيمن: أعتقد أنّ أسبابًا عدّة تقف وراء ذلك؛ فالستاند أب يقدّم مادّة سهلة للهضم ومتاحة وسهلة الملاءمة لأماكن العرض. من جهة أخرى، لا نزال نعاني من عدم جاهزيّة قاعات المسرح المتوفّرة. أسباب أخرى تقف وراء الجودة أو شحّ إمكانات الإنتاج. ثمّة أناس يشعرون بأنّ المسرح يقدّم مادّة ثقيلة عليهم. أشعر أحيانًا بأنّ الناس إذا شاهدوا ستاند أب سيّئًا فسيعاودون الرجوع، لكن لا يفعلون إذا شاهدوا مسرحًا سيّئًا.

ثمّة جفاء بين الجمهور والمسرح، لكنّها أزمة عالميّة، وهناك ما هو أعمق من أن نقول إنّها أزمة إنتاج. خذي جمهورنا مثالًا، عددنا مليون ونصف المليون، 30% منّا ربّما قد يستهلك مسرحًا.

 

فُسْحَة: أذكر في أحد الإحصاءات المحلّيّة، تبيّن أنّ أقلّ من 2% من المواطنين في أراضي 48 دخل قاعة مسرح أصلًا...

أيمن: نعم، لكنّي أتحدّث عن الجمهور المتوقّع، الّذي من الممكن جلبه إلى مشاهدة مسرحيّة، المسؤوليّة تقع على جميع الأطراف، لكنّ بعضها يفضّل الحسابات المادّيّة على الجودة.

 

فُسْحَة: هلّا تقول لنا مَنِ الّذي شكّل إلهامك الأوّل في الكوميديا، وعلّمك الخفّة والسخرية؟

أيمن: أوّل مَنْ يخطر ببالي هو جدّي لأمّي، كان دمه خفيفًا. كذلك أخوالي يضحكونني دائمًا. وُلِدْت في قرية ترشيحا، وفي ترشيحا جوّ من المرح والسخرية في الكلام والأحاديث. أثّرت هذه البيئة فيّ بالتأكيد، لكنّي كنت وَلَدْ زِنِخْ، لكن حين بدأت التعامل مع تجارب الحياة بطريقة أخرى اختلف الأمر. نشأت في عائلة جدّيّة، لكنّ جدّي كان يثير ضحكي في تعامله مع الأمور.

 

فُسْحَة: ومتى فهمت أنّ في استطاعتك إضحاك الناس؟

أيمن: لم أكن أعرف متى. مرّات كانت النكتة تشتغل شغلها، ومرّات أخرى لا. ما مِنْ معادلة واحدة يمكن الوصول إليها تجعل النكتة تصل إلى مبتغاها، المسألة مسألة حسّيّة. لا أزال حتّى الآن أشعر بأمور قد تمشي وأخرى قد تتعثّر. أمور كثيرة تدخل في المعادلة كالموقف والتوقيت وتركيب الجملة. يحدث معي أن أعمل على تغيير تركيب الجمل حتّى تختلف النكتة تمامًا. اكتشفت أيضًا كم أنّ لحظة سرد النكتة وتوقيت سردها المناسب أمرٌ له الكثير من التأثير. لكن بالعموم ليس ثمّة معادلات. في الماضي كنت حسّاسًا تجاه النكات الّتي لا يتفاعل معها الجمهور، اليوم أجدني أقلّ حساسيّة؛ فالأمر يرتبط أحيانًا بالجمهور نفسه. قد "تمشي" نكتة ما أمام جمهور وتتعثّر هي نفسها أمام آخر. ما يعنيني هو التجنّد للعرض والتركيز العالي، وعدم أخذ الأشياء باستخفاف؛ فالعرض يتطلّب طاقة وتحضيرًا نفسيًّا ومجهودًا عاليًا.

 

فُسْحَة: ومع وجود الدمى سيبدو الأمر أكثر صعوبةً، صحيح؟

أيمن: بلا شكّ، مع وجود الدمية في العرض الكوميديّ أشعر بأنّي عبارة عن ثلاثة أشخاص: نفسي والدمية والمخرج الّذي يوفّق بيننا. تحريك الدمية والكلام الباطنيّ يحتاج إلى تركيز عالٍ ومجهود جسديّ مضاف إلى خيط الكوميديا.

 

فُسْحَة: كيف انتقيت الدميتَين؛ دكتور سليم وخيّا؟ لِمَ هذان تحديدًا؟

أيمن: الدكتور سليم ظهر كشخصيّة في عمل مصوّر لم أكمله، دخلت معه لمدّة شهر كامل في ورشة بحث عن شخصيّته. كنت أعمل حينذاك على عرض "عَلْقان"؛ فتطوّرت فكرة وجود الطبيب النفسيّ سليم، الّذي يبعث على الخوف أكثر من الطمأنينة، ويخرّب أكثر ممّا يهدّئ. أمّا شخصيّة خَيّا، فظهرت حين بحثت عن شخصيّة مُضْحِكَة، لكن تثير بعض الخوف، لكنّها غير مهدّدة. وهو نمط شخصيّات موجودة بيننا، شخصيّات خطيرة، أو للدقّة، بِلْعَبوها خَطيرين، ولديهم حكمة حياة معيّنة. بينما جاءت شخصيّة زيزي على نحو معاكس؛ فقد صمّمت الشخصيّة ثمّ بحثت فيها. أردت شخصيّة نسائيّة أتعامل معها مع الصوت النسائيّ. تطوّرت قصّة حبّ بيننا، لكنّا لا نزال نبحث عن بعضنا بعضًا، إنّ علاقتي بالدمى مركّبة ومعقّدة. أنا دائم البحث لأنّ الاكتشاف فيها لا ينتهي، أحيانًا أجد نفسي أحادثهم، فأقول في سرّي: عَ مَهْلَكْ، روق!

 

فُسْحَة: كيف يمكن تطوير هذا الفنّ في فلسطين؟

أيمن: يحتاج الأمر إلى اجتهاد شخصيّ. توجّه إليّ أشخاص بهدف تلقّي التعليم، لكنّي قلت إنّي لست جاهزًا، لا أملك الثقة أو الجاهزيّة لأعلّمه، ما زلت أنا نفسي طالبًا فيه، ثمّ إنّ الدمى ليست المساحة الوحيدة الّتي أشتغل فيها، وتركيزي ليس مخصّصًا بالكامل لها.

 

فُسْحَة: مثل مسرح الأطفال؟ حدّثنا عن تجربتك فيه وكيف تنظر إلى مشهده.

أيمن: ثمّة إنتاج لافت في مسرح الأطفال، مدعوم لأنّه مفتوح للعرض بصورة أكبر، ولا سيّما في المدارس، وهذا أمر جيّد؛ فالمسرح بحاجة إلى أن يتغذّى على العروض. أنتجنا في "مسرح سَرد" عملين حتّى الآن، ونعمل اليوم على إنتاج عمل جديد. كذلك أعمل على إخراج مسرحيّة لـ "مسرح الحنين" للعائلة، عن نصّ للأخوين غريم. وأطمع في أن نتناول قصصًا محلّيّة ونُجْري عليها إعدادًا مسرحيًّا. مسألة الجودة جوهريّة في مسرح الأطفال. كلّ مَنْ يتعامل مع مضمون موجّه إليهم عليه أن يبذل أجود ما عنده، ومُشْ بَسّ تَسْليك. تربّي جيلًا يشاهد مسرحًا بجودة عالية سيكبر ويطلب مسرحًا بالجودة ذاتها. حركتنا المسرحيّة ليست طويلة العمر، لكنّها تزداد في السنوات الأخيرة.

 

فُسْحَة: ثمّة مسارح أُغْلِقَتْ أيضًا في هذه السنوات!

أيمن: صحيح، مسارح تُغْلَق ومسارح صغيرة أخرى تفتح أبوابها؛ هذا يفتح الباب أمام فرص العمل والإنتاج والجمهور. اليوم عدد طلّاب المسرح يزداد، هؤلاء يجلبون معهم الجودة والطاقات الجديدة الفكريّة والإبداعيّة والإنتاجيّة. محلّيًّا، في ما يخصّ المسرح أنا لست خائفًا؛ لأنّي أقارن حال اليوم بالحال قبل 20 عامًا، حين كنّا نجلس على مقاعد "مسرح الميدان" مع 13 شخصًا آخرين.

جمهور اليوم ليس جمهورًا كافيًا، لكنّه آخذ بالاتّساع بالضرورة. من الضروريّ أن نحافظ على الأمل وأن نستمرّ في المحاولة والتجريب. كنّا نقول دائمًا إنّ الجمهور سيأتي إلى المسرح إن أعطيته مسرحًا، شيئًا فشيئًا ستتّسع دوائره.

 

فُسْحَة: هل بإمكان الفيديوهات أن تكون وسيطًا مختلفًا في هذه الأيّام، ولا سيّما أنّه يفتح قنواته لجمهور أوسع في العالم العربيّ، إذا ما تحدّثنا مثلًا عن فيديوهاتك الأخيرة "شو جديد مع مفيد"؟

أيمن: لم أكن يومًا فعّالًا حقيقيًّا على منصّات التواصل الاجتماعيّ، أكون فعّالًا في أيّام معيّنة وأهدأ في أخرى. مرّ عام وأنا أبحث عن مشروع أستطيع أن أقدّمه عبر هذه المنصّات، لكنّ أيّ مشروع ستاند أب مصوّر يحتاج إلى جمهور، وأنا لا أريد تقديم المسرح على يوتيوب؛ لذلك فكّرت في شخصيّة "مفيد" الّتي تُجْري حوارات تلفزيونيّة مع شخصيّات سياسيّة. التجربة مثيرة وهي طور التطوير، وتتلقّى ردود فعل جيّدة.

 

فُسْحَة: ماذا عن جمهور العالم العربيّ؟

أيمن: يهمّني كثيرًا بكلّ تأكيد، كان لديّ محاولات؛ عرضت في أربعة بلدان حتّى الآن، لكنّي لا أستطيع القول إنّ لديّ جمهورًا عربيًّا أجول عنده. أعترف بأنّني لا أبذل جهدًا كافيًا؛ فقد آمنت دومًا بأنّ عليّ أن أعمل على تطوير ما أقدّمه محلّيًّا قبل أن يخرج، يهمّني أن يتطوّر المسرح هنا. لم أنظر إلى العرض في الخارج على أنّه إنجاز، لكن ذلك لا يعني أنّه ليس جانبًا مهمًّا؛ فقد كان بعض العروض مخطّطًا له، لكن أحبطته الكورونا. قبل 20 عامًا سُئِلْنا، أنا وشمّاس نحّاس، إن كان يُثيرنا أن نعرض في نيويورك، فأجبنا بأنّنا نريد أن نعرض في جتّ.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.